سورة الحشر - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}
{لِلْفُقَرَاء المهاجرين} قال الزمخشري: بدل من قوله تعالى: {ذَا القربى} [الحشر: 7] والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه: {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظًا لأن فيه سوء أدب انتهى.
وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر، قال الإمام: فكأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين، وما ذكر من الإبدال من {ذَا القربى} وما بعده مبني على قول الحنفية إنه لا يعطي الغني من ذوي القربى وإنما يعطي الفقير، ومن يرى كالشافعي أنه يعطي غنيهم كما يعطي فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده، وقيل: يجوز ذلك أيضًا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقير بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيًا شيئًا منه، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر.
وفي الكشف أن {لِلْفُقَرَاء} ليس للقيد بل بيانًا للواقع من حال المهاجرين وإثباتًا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل: لله وللرسول وللمهاجرين، وقال ابن عطية: {لِلْفُقَرَاء} إلخ بيان لقوله تعالى: {اليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورًا بها لتبيين أن البدل هو منها، وقيل: اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى: {كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنياء مِنكُمْ} [الحشر: 7] كأنه قيل: ولكن يكون للفقراء المهاجرين.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناءًا على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب حضر جمع من الأصحاب {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم} حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج فخرجوا منها، وهذا وصف باعتبار الغالب، وقيل: كان هؤلاء مائة رجل {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ الله وَرِضْوَانًا} أي طالبين منه تعالى رزقًا في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وصفوا أولًا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال، وقيد ذلك ثانيًا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} عطف على {يَبْتَغُونَ} فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة {أولئك} الموصون بما ذكر من الصفات الجليلة {هُمُ الصادقون} أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك، وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك فيه الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلابد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضًا.


{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
{والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار؛ والتبوّؤ النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل؛ ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرًا ومتوطنًا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوّؤهم إياها مدحًا لهم.
وقال غير واحد: الكلام من باب:
علفتها تبنًا وماءًا باردًا ***
أي تبوأوا الدار وأخلصوا الايمان، وقيل: التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل: لزموا الدار والايمان، وقيل: في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة وفي {والإيمان} حذف مضاف أي ودار الايمان فكأنه قيل: تبوأوا دار الهجرة ودار الايمان على أن المراد بالدارين المدنية، والعطف كما في قولك: رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدًا، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل: إن الايمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى، وقيل: الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين، وهو أيضًا ليس بشيء، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولًا، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة. وطابة. ويثرب. وجابرة إلى غير ذلك.
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثًا مرفوعًا يدل على ذلك {مِن قَبْلِهِمُ} أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق بتبوأوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فهي لما أظهروه.
وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوأوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبوىء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوىء الأنصاري وإيمانهم على تبوىء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوؤ الدار، وتعقب نع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوىء المهاجرين وإيمانهم على تبوىء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} في موضع الحال من الموصول، وقيل: استئناف، والكلام قيل: كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل: على ظاهره أي يحبون المهاجرين إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الايمان {وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ} أي ولا يعلمون في أنفسهم.
{حَاجَةً} أي طلب محتاج إليه {مّمَّا أُوتُواْ} أي مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز، والحاجة عنى المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال: خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته، و{مِنْ} تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.
ويجوز أن كيون المعنى لا يجدون في أنفسهم مايحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطى المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، وقيل: على أنها كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم: أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب، و{مِنْ} في قوله تعالى: {مّمَّا أُوتُواْ} تعليلية {وَيُؤْثِرُونَ} أي يقدمون المهاجرين {عَلَى أَنفُسِهِمْ} في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدًا منهم، ويجوز أن لا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين، أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فاطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما {وَيُؤْثِرُونَ}» الخ.
وأخرج الحاكم وصححه. وابن مردويه. والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقي بين عيدانه من الفرج والفتوح، والجملة في موضع الحال، وقد تقدم وجه ذلك مرارًا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال:
يمارس نفسًا بين جنبيه كزة *** إذا هم بالمعروف قالت له مهلًا
وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، وقال الراغب: الشح بخل مع حرص؛ وذلك فيما كان عادة، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال: البخل أن يبخل الإنسان افي يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس، وأخرج عبد بن حميد. وابن جرير. وابن أبي شيبة. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الشعب. والحاكم وصححه. وجماعة عن ابن مسعود أن رجلًا قال له: إني أخاف أن يكون قد هلكت قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله تعالى يقول: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله تالى أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ما له ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، ولم أر لأحد من اللغويين شيئًا من هذه التفاسير للشح، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به ال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلمًا أو تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل.
وقرأ أبو حيوة. وابن أبي عبلة {وَمَن يُوقَ} بشدّ القاف، وقرأ ابن عمر. وابن أبي عبلة {شُحَّ} بكسر الشين، وجاء في لغة الفتح أيضًا، ومعنى الكل واحد، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الانفاق {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولًا أوليًا، وفي الإفراد أولًا والجمع ثانيًا رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددًا وكثرتهم معنى:
والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا
ويفهم من الآية ذم الشح جدًا، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه، أخرج الحكيم الترمذي. وأبو يعلى. وابن مردويه عن أنس مرفوعًا:«ما محق الإسلام محق الشح شيء قط» وأخرج ابن أبي شيبة. والنسائي. والبيهقي في الشعب. والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعًا «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدًا ولا يجتمع الايمان والشح في قلب عبد أبدًا».
وأخرج أبو داود. والترمذي وقال غريب والبخاري في الأدب. وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا «خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق» وأخرج ابن أبي الدنيا. وابن عدي. والحاكم. والخطيب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها: انطقي فقالت: قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون}».
وأخرج أحمد. والبخاري في «الأدب». ومسلم. والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» إلى غير ذلك من الأخبار، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادًا بكل شيء، فقد أخرج عبد بن حميد. وأبو يعلى. والطبراني. والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعًا «برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة».
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه، وكذا ابن جرير. والبيهقي عن أنس، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه، وقوله تعالى:


{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}
{والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} عطف عند الأكثرين أيضًا على {المهاجرين} [الحشر: 8]، والمراد بهؤلاء قيل: الذين هاجروا حين قوي الإسلام، فالمجيء حسي وهو مجيئيهم إلى المدينة، وضمير {مّن بَعْدِهِمْ} للمهاجرين الأولين، وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان وضمير {مّن بَعْدِهِمْ} للفريقين المهاجرين والأنصار، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين، وجملة قوله تعالى: {يَقُولُونَ} إلخ حالية، وقيل: استئناف.
{رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا} أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب {الذين سَبَقُونَا بالإيمان} وصفوهم بذلك اعترافًا بفضلهم {وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًا} أي حقدًا، وقرئ غمرًا {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} على الإطلاق {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في الرأفة والرحمة، فحقيق بأن تجيب دعاءنا، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم، وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية {والذين جَاءوا} الخ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلًا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاء المهاجرين} [الحشر: 8] الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو قال: لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
وفي رواية أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلًا نال من عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال، وقال الإمام مالك: من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قول سيء أو بغض فلاحظ له في الفىء أخذًا من هذه الآية، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين، وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي. والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال مستكشفًا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق وفي رواية أنه قال: لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيته لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله: لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلًا بينًا».
هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: {والذين تبوأوا} [الحشر: 9] إلخ مبتدأ، وجملة {هؤلاء يُحِبُّونَ} إلخ خبره، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار، وجوز كون ذلك معطوفًا على {أولئك} فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، وجملة {يُحِبُّونَ} إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير {تبوأوا} وإلى أن قوله تعالى: {المفلحون والذين جَاءوا} إلخ مبتدأ؛ وجملة {يَقُولُونَ} إلخ خبره، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء حبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار.
واستدل لعدم عطف {الذين تبوأوا} [الحشر: 9] على {لِلْفُقَرَاء المهاجرين} [الحشر: 8] بما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم، وقال عليه الصلاة والسلام لهم: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا: بل نقسم لهم أي للمهاجرين من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية {والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان} إلى آخره، وبعض القائلين بالعطف يقولون: إن قوله تعالى: {والذين} إلخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسن اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف، ولكن قد اختار صلى الله عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم، وهم اختاروا ما اختاروا إيثارًا منهم، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفًا بل في قوله تعالى: {أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} [الحشر: 9] رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم، وأنهم يعطون من الفيء، وكذا عطف الذين جاءوا من بعدهم فقد أخرج البخاري. ومسلم. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وابن حبان. وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن عمر رضي الله تعالى عنه قال أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه. وعمه العباس رضي الله تعالى عنه في فدك، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا إن الله تعالى قال: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء والله على كُلّ شَىْء} [الحشر: 6] فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ثم قال سبحانه: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فالله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى} [الحشر: 7] إلى آخر الآية، ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى: {لِلْفُقَرَاء المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله ورضوانا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} [الحشر: 8]، ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} إلى قوله تعالى: {رَّحِيمٌ} فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهمًا غير السهام السابقة، فلا يكون {لِلْفُقَرَاء} بدل من لذي القربى وما بعده ولا مما بعده دونه، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله. وزيد بن ثابت كما أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فاللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله على أن الإبدال يقتضي ظاهرًا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات، وفي صدق ذلك عليهم بعد، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك، وفيه نوع بعد أيضًا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعال: {فالله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا: فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية. أو فلمن يكون الباقي؟ فقيل: تكون الأخماس الأربعة الباقية أو يكون الباقي {لِلْفُقَرَاء المهاجرين} إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل، والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8